يثير اتفاق جنيف بين إيران ومجموعة 5 + 1 (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا) بشأن برنامج طهران النووي جدلاً واسعاً حول دوافعه ومغزاه وتداعياته والنتائج التي ستترتب عليه. ويبدو هذا الجدل، وما ينطوي عليه من خلاف، طبيعياً ليس فقط بسبب الظروف الإقليمية والدولية التي تحيط الاتفاق الذي تم في جنيف في 24 نوفمبر الماضي، ولكن أيضاً لأنه جاء بعد فشل 19 جولة مفاوضات في التوصل إلى مثله على مدى السنوات العشر الأخيرة. وعلى رغم حدة الخلاف على تقييم هذا الاتفاق، وخاصة من زاوية ما حققته كل من الولايات المتحدة وإيران من مكاسب وما دفعتاه من أثمان، ربما يمكن اعتباره اتفاق ضرورة بين طرفين منهكين. فقد أنهكت حربا أفغانستان والعراق الولايات المتحدة التي التزمت إدارتها الحالية بإنهاء وجود جنودها في الخارج تدريجياً والحد من تكلفة دورها العالمي. كما أنهكت العقوبات المفروضة على إيران اقتصادها، وفاقمت أزماتها التي وصلت إلى حد العجز مؤخراً عن سداد التزامات أساسية على الدولة بعد أن تراجعت عملتها الوطنية (أو انهارت في قول آخر) وارتفعت معدلات التضخم وازدادت البطالة في الوقت الذي لم يبتعد شبح «الثورة الخضراء» كثيراً على رغم أن قادتها قابعون إما في السجون أو قيد الإقامة الجبرية. ولكن ثمة فرقاً جوهرياً بين وضع كل من الإدارة الأميركية والسلطة الإيرانية. فالإدارة الأميركية الخاضعة لمحاسبة الكونجرس والقضاء والإعلام والملزمة بدرجة معينة من الشفافية في أدائها لا تستطيع إخفاء أية أزمة حين تتعرض لها، ولا تملك إنكار اضطرارها إلى مراجعة تورطها في النزاعات الدولية والإقليمية حين يشتد إنهاكها. أما السلطة الإيرانية، التي تجتمع خيوطها كلها بين يدي المرشد الأعلى، فهي تستطيع بل تحترف إخفاء الحقائق وإنكار الواقع وتملك تحديد اتجاهات الخطاب السياسي الرسمي بالطريقة التي تريدها بدون محاسبة أو مساءلة على أي مستوى. وربما بسبب هذا الفرق، بدا الاتفاق المتعلق ببرنامج طهران النووي خطوة محورية باتجاه تراجع الولايات المتحدة عن دورها العالمي لأن إدارتها الحالية لم تخفِ عدم قدرتها على مواصلة تحمل أعباء هذا الدور بعد أن دفعتها إدارتا بوش إلى حربين شديدتي التكلفة. كما أن ربط هذا الاتفاق بتراجع أوباما عن موقفه تجاه جريمة استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، وإسراعه لالتقاط المبادرة الروسية لتدمير هذا السلاح بدلاً من توجيه ضربة عسكرية ضد قوات بشار الأسد، يعزز الاعتقاد بأن إيران نجحت في استغلال إنهاك الولايات المتحدة التي تعبت ليس فقط من الحروب فيما يبدو ولكن من مسؤولية التفرد بقيادة العالم أيضاً. ولكن هذا الاستنتاج لا يأخذ في الاعتبار الثمن الذي قدمته إيران للتوصل إلى هذا الاتفاق، ويغفل مقارنته بما كان يمكن أن تحصل عليه قبل عشر سنوات، وتحديداً عام 2003، لو أنها قبلت حينئذ صفقة «الحوافز الأوروبية لوقف برنامجها النووي». فقد شملت تلك الصفقة السابقة، بخلاف الاتفاق الحالي، حوافز اقتصادية وتكنولوجية لا يُستهان بها في مقابل وقف تطوير برنامج إيران النووي بما يتجاوز الاستخدامات السلمية. كما يتضمن الاتفاق الراهن، بخلاف الصفقة التي عرضت على طهران من قبل، التزام إيران صراحة بأنها (لن تسعى للحصول على أسلحة نووية أو تطويرها مهما كانت الظروف). وهذه هي المرة الأولى التي تلتزم فيها إيران بذلك في اتفاق دولي. ولم تحصل إيران، والحال هكذا، على مكسب خاص يتجاوز المتعارف عليه في هذا المجال، وما هو متاح لأية دولة تلتزم بقواعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويعني ذلك أن إيران وافقت عام 2013 على ما كان مطلوباً منها عام 2003، وهو وقف نشاطاتها النووية غير السلمية، دون أن تحصل على المقابل الاقتصادي الكبير الذي كان معروضاً عليها حينئذ. غير أنه لا يمكن، رغم ذلك، إغفال المكاسب التي حققتها إيران بمقاييس اللحظة الراهنة وليس بمعايير وضع كان قائماً قبل عشر سنوات وطرأ عليه تغير كبير بعد أن جرت مياه كثيرة في نهر المنطقة والعالم خلال هذه الفترة الطويلة. فقد منح الاتفاق إيران حرية حركة في المنطقة كانت في أشد الحاجة إليها. وهذا هو ما ينبغي أن ننتبه إليه جيداً على المستوى العربي لكي لا نخطئ التعامل معه. ولعل أخطر ما ينطوي عليه هذا المكسب هو أنه تحقق عبر سياسات غير مشروعة تجاه الأزمة السورية لأنها تتعارض مع الشرعية الدولية بشأن هذه الأزمة بل تنتهكها. ونجحت إيران، على هذا النحو، في الحصول على قبول دولي ضمني بتدخلها غير المشروع في أزمة تجاوزت حدود البلد الذي اندلعت فيه وصارت مؤثرة في مستقبل المنطقة بوجه عام، الأمر الذي قد يشجعها على المضي قدماً في الاتجاه نفسه. ولم يعد ثمة تعسف الآن في الربط بين تراجع أوباما عن معاقبة نظام الأسد وتحركه للتفاهم مع إيران. كما لم يعد مستبعداً أن تكون واشنطن قد فتحت قنوات اتصال خلفية ثنائية مع إيران حول الأزمة السورية، في الوقت الذي تقوم فيه طهران بالدور الرئيسي في تمويل آلة القتل الرهيبة لنظام الأسد وتطويرها. وثمة مكسب ثانٍ لإيران من هذا الاتفاق هو أنه يساعدها على تحسين صورتها التي بدأت في ترويجها فور التوصل إليه، سعياً إلى دعم نفوذها في المنطقة والحصول على مواقع جديدة لهذا النفوذ. غير أن حدود هذين المكسبين تتوقف على مكسب ثالث محتمل ولكنه ليس أكيداً وقد لا يتحقق، وهو وقف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها أو تخفيفها. فالاتفاق لا يرفع تلقائياً هذه العقوبات، ولكنه يفتح باباً للحوار حول آلية خفضها خلال الفترة المقبلة. ولذلك ربما يجوز القول إن آثار المكسبين المتعلقين بحرية الحركة الإقليمية التي ستتاح لإيران وإمكانات تحسين صورتها قد تظل محدودة ما لم تتمكن إيران من تحقيق الهدف الأول الذي دفعها إلى قبول الاتفاق، وهو السعي إلى رفع العقوبات. فقد أنهكتها هذه العقوبات التي آذت اقتصادها ولعبت الدور الرئيس في إيصال الشيخ «المعتدل» حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية. ولذلك سيكون السعي إلى رفع العقوبات في صدارة جدول أعمال إيران من الآن وحتى يحين أوان تطوير الاتفاق الانتقالي الحالي إلى آخر أكثر ديمومة. وفي هذه الفترة، التي لن تقل عن ستة شهور، ما يكفي لبلورة رؤية عربية أكثر وضوحاً بالنسبة إلى مستقبل المنطقة في ضوء الاحتمالات المختلفة للدور الإيراني القادم فيها.